ثورة أشباه الموصلات في المملكة العربية السعودية
وفي زمن الابتكار التكنولوجي السريع والاقتصادات القائمة على البيانات، يطلق على أشباه الموصلات اسم النفط الجديد. ومن خلال جذب استثمارات عالمية بقيمة تريليون دولار بحلول عام 2030، تشكل هذه الرقائق الصغيرة حجر الزاوية في المجتمعات الحديثة. من الحوسبة إلى الإلكترونيات الاستهلاكية إلى الألواح الشمسية، تعتمد العديد من الأجهزة اليومية على أشباه الموصلات.
واستنادا إلى خصائصها التقنية وإمكاناتها الاقتصادية، اجتذبت صناعة أشباه الموصلات الاهتمام والاستثمار العالميين. على الرغم من أن أشباه الموصلات تعد مكونات مهمة في أنظمة الدفاع وتتعرض لاضطرابات سلسلة التوريد العالمية التي تسبب نقصًا محليًا، إلا أنها اجتذبت أيضًا اهتمامًا تنظيميًا نظرًا لأهميتها للأمن القومي.
تزامن الارتفاع العالمي لأشباه الموصلات مع التحول المستمر في المملكة العربية السعودية، حيث أصبحت المملكة مهتمة أكثر من أي وقت مضى ببناء اقتصاد رقمي والاستثمار في أحدث التقنيات. بناءً على خطتها الطموحة التي تم الإعلان عنها في مارس/آذار لتوفير دفعة بقيمة 40 مليار دولار للذكاء الاصطناعي في البلاد، أعلنت المملكة العربية السعودية عن إنشاء مركز وطني لأشباه الموصلات هذا الشهر خلال منتدى مستقبل أشباه الموصلات في الرياض.
وتهدف الحكومة إلى استخدام حوافز مالية مختلفة لجذب 50 شركة لأشباه الموصلات لإنشاء قواعد في المملكة العربية السعودية وتطوير رقائق بسيطة خالية من التصنيع. وبينما سيتم تصنيع الرقائق دوليًا في البداية، تخطط المملكة للاستفادة من موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية الوفيرة والبنية التحتية البحثية والمواهب المحلية لإنشاء نظام بيئي لأشباه الموصلات تبلغ قيمته أكثر من 13 مليار دولار.
ويأتي ذلك وسط تزايد الاهتمام السعودي بالاستثمار في التقنيات الناشئة محليًا ودوليًا. ومن خلال القيام بذلك، دخلت المملكة في شراكة مع شركات أشباه الموصلات العالمية الرائدة مثل Nvidia وQualcomm وIntel للجمع بين خبراتهم الصناعية ومواردها المالية والطبيعية. ومع ذلك، على الرغم من أن هذه الشركات الأمريكية تقدم حاليًا تكنولوجيا متطورة لأشباه الموصلات، إلا أن التوترات الجيوسياسية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين أدت إلى تعقيد أي استخدام طرف ثالث لهذه التكنولوجيا.
وتهتم المملكة أكثر من أي وقت مضى بخلق الاقتصاد الرقمي والاستثمار في أحدث التقنيات
زيد م. بلباقي
حظرت الولايات المتحدة تصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، مشيرة إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي، مما يجعل من الصعب على أي دولة تتعامل مع الصين شراء التكنولوجيا الأمريكية. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة حظرت العام الماضي بيع شرائح A100 وH100 المتقدمة من Nvidia إلى الشرق الأوسط بسبب تسرب التكنولوجيا إلى الصين.
وفي هذا السياق، فإن التزام المملكة العربية السعودية بتطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية يشكل تمريناً في تشكيل سياسة خارجية مستقلة ومؤثرة بشكل متزايد. يمكن رؤية جهود المملكة لتحقيق التوازن في التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين في تقريرين متناقضين صدرا مؤخراً. وفي أوائل شهر مايو، قال صندوق الاستثمار السعودي للذكاء الاصطناعي “اللات” إنه مستعد للتخلي عن الشركات الصينية إذا طلبت الولايات المتحدة ذلك. وبحلول نهاية هذا الشهر، ظهرت تقارير تفيد بأن أرامكو السعودية ستشارك في جولة تمويل بقيمة 400 مليون دولار لشركة الذكاء الاصطناعي الصينية Zhipu AI من خلال صندوق رأس المال الاستثماري السابق Prosperity7 Ventures. وفي حين شكك النقاد في جدوى تحقيق التوازن بين الشريكين، فمن الضروري بالنسبة للمملكة ضمان الوصول دون عوائق إلى أحدث التقنيات وأكثرها فعالية من حيث التكلفة في مجال أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.
وسعيًا منها لتجنب عوائق نقل التكنولوجيا مع الحفاظ على العلاقات مع عملاقي التكنولوجيا، قررت المملكة العربية السعودية التطلع إلى الداخل لتطوير قدراتها الخاصة ومواهبها المحلية في صناعة أشباه الموصلات. وسط خطط طموحة بمليارات الدولارات للاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي، يعد الاستثمار الأولي بقيمة 266 مليون دولار في المركز الوطني لأشباه الموصلات علامة على الثورة التكنولوجية المستمرة في المملكة العربية السعودية.
لا تسعى المملكة إلى الحد من منافسة القوى العظمى في هذا القطاع فحسب، بل تستغل أيضًا هذه الفرصة لتطوير وتوظيف شبابها، وتعزيز الشراكات الدولية وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا، وهو أمر أساسي للتقدم السعودي نحو اقتصاد متنوع ما بعد النفط. إن زيادة التوطين في إنتاج الرقائق تسمح للمملكة العربية السعودية بالتخفيف من التحديات التي تفرضها الكوارث الطبيعية والصراعات وحقوق الملكية الفكرية على سلسلة توريد أشباه الموصلات المنتشرة عالميًا. وتشير رؤية المركز المتمثلة في استقطاب 25 خبيراً عالمياً وتدريب 5000 مهندس لأشباه الموصلات بحلول عام 2030 إلى النهج المستدام الذي تتبعه المملكة لتطوير هذه الصناعة.
جدير بالذكر أن التقرير الأخير للمركز الوطني لأشباه الموصلات لا يهدف إلى “استبدال إنفيديا أو تحدي إنتل”، فهو يسلط الضوء على تقييم عملي لقدرات المملكة وأهدافها، وهو ما سيجعل هذه الثورة التكنولوجية ممكنة. ويقول نافيد شيرواني، الذي يرأس المركز الجديد، إن تركيز المملكة العربية السعودية ينصب على الرقائق غير المعقدة التي لا تمثل حساسية سياسية.
إن تطوير المملكة لرقائق منخفضة التكلفة وغير قابلة للتصنيع سيفيد أيضًا شركائها في الجنوب العالمي. ويمكن للمملكة العربية السعودية أن تزود هذه الاقتصادات الناشئة بتكنولوجيا مهمة بتكلفة معقولة لمنحها الزخم الأولي لتحولها الرقمي. وتضع هذه المبادرات المملكة العربية السعودية في طليعة الثورة التكنولوجية، ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى العالمي.
• زيد بلباقي معلق سياسي ومستشار لعملاء القطاع الخاص بين لندن ومنطقة مجلس التعاون الخليجي. عاشرا: @مولاي_زيد
تنويه: الآراء التي عبر عنها الكتاب في هذا القسم خاصة بهم ولا تعكس بالضرورة آراء عرب نيوز.
“مبشر الإنترنت. كاتب. مدمن كحول قوي. عاشق تلفزيوني. قارئ متطرف. مدمن قهوة. يسقط كثيرًا.”